الأحد، 25 يوليو 2010

في عمقِ المساومة

بعدما طلب من "إكرام" تحضير فنجان القهوة الذي أعتاد تناوله بعد العشاء، استلقى على سريره، فاتحا مجاري ينسكبُ عبرها تعبُ يومٍ مُثقلٍ بالأعمال.آملا في استرجاع بعضا من ألقِ الحيوية التي بدأ يخفتُ ضجيجُ مُواره خلف هديرجدار شلالات الإنشغالات التي ضاقت بها يومياته.
أسبل جفنيه في محاولةٍ يائسة لأسدال ستائر تحجبُ عنه الأحداث الأخيرة التي ألقَتْ بجبال أحجامها بمجرى حياته، الذي لم يعرف –في السنين الأخيرة-سوى النجاحات في توسيع دائرة شاطاته التجارية ، ما جعله أحد أبرز رجال مدينته الصغيرة.
وهو لا يكاد يُصدِقُ أن الأقدار منحته حبل نجاتها السحري فأخرجته من غيابات جُبِ الفقر وحلقت به في علياء البذخ ورغد العيش.
من خلف العتمة مرق ضياءُ الذكريات من ضحالة نبع الفقر الذي كان يحياه، يشرب منه مرارة الحاجة ، وغصة أشواك الإذلال بحلق كرامته.
طعم حنظلية الإشتهاء الذي لا يتحقق لا زال كلدغ أفعى،لطالما طلبت منه إبنته البكر "سهير" أن يشتري لها سلسلة ذهبية بسيطة لترد بها بعضا من تهكمِ صويحباتها بالمدرسة على عدم امتلالكها ولا قطعة ذهبية فضلا عن لباسها "الشيفون" الذي يُعيَِرنها به.يحسُ "سليمان" أن سكاكين تخترقُ أحشاءه بوحشية ، تسقطه مضرجا بدموع العجز المُذِل ويجتهدُ أن لا تراه إبنتُه باكيا.
تحاول زوجته "إكرام" مواساته، والتخفيف من معاناته..فيقول لها:
-لماذا طعنتنا الأقدارُ بسطوة الفقر ، ورمتنا بهذا الحي القصديري ا لبائس ، المُقابلِ لأهل المال ورغد العيش،لتكون إبنتنا "سهير" ضحية هذا التمزق العنيف الذي لا يرحم.."
فتهدىء من روعه ، وتسكبُ بقلبه بعضا من قطرات السكينة بقولها:
" ثَق بالله، وادعوه تفريج الكرب ، إنه سميعٌ مُجيب،عن السلسلة الذهبية لـ سهير
سأشتريها بما ادخرتُه من الخياطة والطرز.."
أنتشلتْه "إكرام" من نفق الذكريات بقولها:
-سليمان..ها هو فنجانُ قهوتِكَ..
فتح عينيه ، وجدها تقفُ بجانبه بطولها الفارع ، وشعرها الليلي المنسدل على
أكتافها ، راسما بهاء وجهها كفلقة بدر،اكتسحتْ أعماقَه موجةٌ عاتيةٌ من احتقارِ الذات، كاوية بحرقة صهارة بركانٍ متفجر،أحستْ إكرام بما يُشبِه برودة الصقيع تتمددُ عبر جسر تواصل سليمان معها حين يكونان بمفردهما في الغرفة.
قالت بنبرةٍ طغا عليها الترددُ المشوبِ بالحذر:
-سليمان...ما بِكَ؟

-لا..لا..لا شيء إكرام مجرد تعب وضغط العمل فقط.
انصرفت بهدوءها المعتاد دون أن تنبُسَ ببنتِ شفة...وبقي سليمان وحيدا لتجرفه أنواءُ التفكير المُضني إلى عمق المأساةِ التي ارتمى فيها حين سايرسكرتيرتَه "زليخة" في لعبة حُبٍ رمتْه بـ "جُبِ " المساومة: الزواج أو التنازل عن جزءٍ من ثروته..
وضع سليمان رأسه بين كفيه وتساؤلٌ مُرٌ يغلي كالمرجل بأعماقه:
أهي تلك الصبية التي وظفتُها شفقة لحال الفقر المُزري الذي تعيشه أسرتها التي فقدت الأب الذي كان جارهم بالحي القصديري، وكان يعمل حمّال..؟
كيف لصبية في سن إبنتي "سهير" أن تُورِدني لمثل هذه الحماقات والسقطات المُدوية؟؟.."
تذكَّرَ علبة الدواء المنوم التي اشتراها وهو عائدٌ للمنزل، مدَّ يده إلى جيبِ سترتِه ، تناول حبتين دفعة واحدة...عاود الإستلقاء على السرير، مُرتميا –من جديد- في عمقِ أنواء التفكير المُضني قبل أن يستسلم لنوم عميق مُستجلبٍ بحبتي دواءٍ مُنوِم.
ليبقى التساؤلُ المِلحاح:
"هل ستمنحُ الأقدارُ سليمانَ حبلاً سحريا يخرجه من غياباتِ جُبٍ المأساة التي ضفرت
حلقاِتُها المُحكمة "زليخة"؟؟"ٍ





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق